الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **
كان يونس بعد سليمان. وبعض العلماء تجعل بينهما أيوب وتقديم أيوب على ما اخترنا أوضح. وكان قبل النبوة من عباد بني إسرائيل هرب بدينه فنزل شاطىء دجله فبعثه الله نبيًا إلى أهل نينوي من أرض الموصل وهو ابن أربعين سنة وكانوا جبارين. قال وهب بن منبه: فضاق بالرسالة ذرعًا وشكى إلى الملك الذي أتاه ضيق ذرعه فأعلمه انه إن أبلغتهم الرسالة فلم يستجيبوا له عذبهم الله وإن لم يبلغهم أصابه ما يصيبهم من العذاب وإن الأجل أربعون يومًا فأنذرهم وأعلمهم بهذا الأجل فقالوا له: إن رأينا أسباب العذاب أصابك. ثم انصرفوا عنه على ذلك فلما مضى من الميقات خمسة وثلاثون يوما غامت السماء غيمًا أسود يدخن واسودت سطوحهم فأيقنوا بالعذاب وبرزوا من القرية بأهليهم وبهائمهم وفرقوا بين كل ذات ولد وولدها ثم تضرعوا إلى ربهم فرحمهم الله تعالى وقبل توبتهم. ثم إن يونس ساح فرأى راعيًا في فلاة فسقاه لبنًا وهومستند إلى صخرة فأعلمه إنه يونس وأمره أن يقرأ على قومه السلام فقال: يا نبي الله لا أستطيع لأن من كذب منا قتل. قال: فإن كذبوك فالشاة التي سقيتني من لبنها وعصاك والصخرة يشهدون لك. فأتاهم الراعي فأخبرهم فأنكروا قوله فأنطق الشاة والعصى والصخرة فشهموا له فقالوا له: أنت خيرنا حين نظرت إلى نبينا فملكوه عليهم أربعين سنة. وروى عمرو بن ميمون عن ابن مسعود قال: كان يونس قد وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها يجاورون إلى الله فكف الله عنهم العذاب فلم يرشيئًا وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل. فانطلق مغاضبًا فركب سفينة فركدت والسفن تسير يمينًا وشمالًا فقالوا: ما لسفينتكم. قالوا: ما ندري فقال يونس: إن فيها عبدًا آبق من ربه وإنها لا تسير بكم حتى تلقونه قالوا: أما أنت يا نبي الله فلا والله لا نلقيك فقال: اقترعوا فغلب ثلاث مرات. فوقع فابتلعه الحوت وأهوى به الى قرار الأرض فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى. في الظلمات ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر فنبذ بالعراء وهو سقيم كهيئة الطائر الممعوط الذي ليس عليه ريش فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فكان يستظل تحتها ويصيب منها فيبس فبكى فأوحى إليه: أتبكي على شجرة أن يبست ولا تبكي على مائة ألف أويزيدون أن تهلكهم. أخبرنا سعيد بن أحمد بن البنا قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد الزينبي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الوراق قال: حدثنا محمد بن السري التمار قال: حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث لما التقم الحوت يونس نبذة إلى قرار الأرضين فسمع تسبيح الحصى في الحمأة فذلك الذي نابه. فنادى وفي قدرمكثه فىِ بطن الحوت خمسة أقوال: أحدها: أربعون يومًا. قاله أنس بن مالك وابن جريج والسدي. والثاني: سبعة أيام. قاله عطاء وابن جبير. والثالث: ثلاثة أيام. قاله مجاهد وقتادة. والرابع: عشرون يومًا. قاله الضحاك. والخامس: بعض يوم. قاله الشعبي. وقد جعلوه بعد يونس وقبل زكريا وهو الذي بشر بعيسى ومحمد صلى الله عليهم. قال ابن إسحاق: هو الذي قال لإيليا وهي قرية ببيت المقدس واسمها أوري شلم فقال: أبشري أوري شلم يأتيك الآن راكب الحمار يعني عيسى ويأتيك بعده راكب البعير يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقال: كان في بني إسرائيل ملك يدعى صديقه وكان إذا ملك الملك عليهم بعث الله تعالى نبيًا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله عز وجل ولا تنزل عليهم الكتب إنما يؤمرون باتباع التوراة. فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا. فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه فبعث الله سنحاريث معه ستمائة ألف راية فأقبل سابيا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاءه النبي شعيا فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريث ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده ستمائة ألف راية فكبر ذلك على الملك فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله كيف يفعل الله بنا وبسنحارث وجنوده قال: لا. فبينا هم على ذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا: أرأيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتى النبي شعيا ملك بني إسرائيل فأخبره فأقبل على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى وقال وهو يبكي وبتضرع إلى الله: زدني في عمري فاوحى الله إلى شعيا أن يخبر الملك أن ربه قد رحمه وقد أخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه فقال الملك لشعيا: سل ربك أن يجعل قال: فقال الله لشعيا: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريث وخمسة من كتابه. فلما أصبح جاء صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج فإن سنحاريث ومن معه قد هلكوا. فلما خرج الملك التمس سنحاريث فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة هو وخمسة من كتابه أحدهم بخت نصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدًا ثم قال لسنحاريث: كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريث له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدًا ولم يُلقني في الشقوة إلا قلة عقلي. فقال ملك بني إسرائيل: إن ربنا إنما أبقاك ومن معك لتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا ولتنذروا من بعدكم. ثم أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس وكان يرزقهم في كل يوم خبزتَيْن من شعير لكل رجل منهم. فقال سنحاريث لملك بني إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا فافعل ما أمرت. فأمر بهم إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك بني إسرائيل يرسل فبلغ النبي شعيا ذلك الملك ففعل فخرج سنحاريث ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ثم لبث سنحاريث بعد ذلك سبع سنين ثم مات. وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بني إسرائيل الذي سار إليه سنحاريث كان أعرج وكان عرجه من عِرْق النسا وأن سنحاريث إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له " ليفر " وكان بخت نصر ابن عمه وكاتبه وأن الله أرسل عليه ريحًا أهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه وأن هذا البابلي قتله ابن له وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتل أباه وأن سنحاريث سار بعد ذلك إليه وكان مسكنه نِينَوى مع ملك أذربيجان يومئذ وكان يدعى سلمان الأعسر وأن سنحاريث وسلمان اختلفا فتحاربا حتى تفانى جنداهما وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل. وقال بعضهم: بل الذي غزاه سنحاريث حزقيا صاحب شعيا و أنه لما أحاط ببيت المقدس بجنوده بعث الله تعالى ملكًا فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألفًا. وكان ملكه إلى أن تُوُفي تسعًا وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه مِنَشَا بن حزقيا إلى أن توفى خمسًا وخمسين سنة. ثم ملك بعده ابنه أمون إلى أن قتله أصحابه اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه يوشيا إلى أن قتله فرعون المقعد ملك مصر إحدى وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه ياهواحاز فغزاه فرعون المقعد فأسره وأشخصه إلى مصر وملك يوثاقيم بن ياهواحاز على ما كان عليه أبوه ووظف عليه خراجًا يؤديه إليه فبقي كذلك اثنتي عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه يوثا حين فغزاه بخت نصر فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه وملك مكانه شيا عمه وسماه صديقيا فخالفه فغزاه فظفر به فذبح ولده بين يديه وسَمَل عينيه وحمله إلى بابل وخرب المدينة وسبى بني إسرائيل وحملهم إلى بابل فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاما سب لقرابة كانت بينه وبينهم من قبل أمه فكان جميع ما ملك صديقيا إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر. ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن بهراسب وعامله على ذلك كله بخت نصر. وقال محمد بن إسحاق: لما قبض الله عز وجل صديقه ملك بني إسرائيل الذي قد تقدم خبره مَرِج أمر بين إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضًا ونبيهم شعيا معهم لا يقبلون منه. فأوحى اللهّ تعالى إليه: قم في قومك أوح على لسانك فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي فلما فرغ من مقالته عدوا عليه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهُدْبة من ثوبه فأراهم إياه فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. ذكر ملوك فارس قد ذكرنا ملوك بني إسرائيل في ذلك الزمان فأما ملوك فارس فإنه كان قد ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك فارس كيقباذ وقد ذكرنا الملوك قبله في قصة يوشع. ثم ملك بعده كيقابوس وكان يسكن بلخ وولد له ولد لم ير أحسن منه ولا أكمل فسماه سياوخش وكان قد تزوج بنت فراسياب ملك الترك فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها فامتنع فأفسدت ما بينه وبين أبيه فبعثه أبوه لحرب فراسياب لأمر جرى بينهما فلما صار إلى هناك جرى بينه وبين ملك الترك صلح فكتب إلى أبيه يخبره فكتب إليه أبوه يأمره بمناهضة فراسياب فرأى أن الحرب بعد الصلح لا يحسن فراسل فراسياب في أخذ الأمان منه فأجابه وزوجه ابنته فحملت منه فأشفق على ملكه منه لما رأى من كماله وحرض عليه فقتله. فبلغ الخبر أباه فبعث من غزا الترك وأثخن فيهم وجاء بزوجة ابنه وولدها وإسمه كيخسرو ثم نهض طالبًا بثأر أبيه فلقي فراسياب فقتل بينهما مائة ألف ثم ظفر بفرا سياب فقتله. ثم زهد في الملك وتنسك بعد أن ملك مملكة الفرس ستين سنة وأعلم الوجوه من أهله بذلك فجزعوا وتضرعوا إليه أن لا يفعل فلم يقبل منهم. قالوا: فسم لنا من يملك. وكان لهراسب حاضرًا فأشار إليه فلما ولي الأمر بنى مدينة بلخ وأقام بها يقاتل الترك. ودون الدواوين وعمر الأرض وجبى الخراج وكان بعيد الهمة محمود السيرة تقر له الملوك بأنه ملكهم وفي زمانه بعث أرميا. وهوأرمياء الألف مضمومة كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي. أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا أبو علي بن دوما قال: أخبرنا مخلد بن جعفر قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال: حدثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي قال: حدثنا إدريس عن وهب: ان أرمياء كان غلامًا من أبناء الملوك وكان زاهدًا ولم يكن لأبيه ابن غيره وكان أبوه يعرض النكاح وكان يأبى مخافة أن يشغله عن عبادة ربه فألح عليه أبوه وزوجه في أهل بيت من عظماء أهل مملكته فلما دخلت عليه امرأته قال لها: يا هذه إني مسر إليك أمرًا فإن كتمتِه علي وسترته سترك الله في الدنيا والآخرة وإن أنت أفشيته قصمك الله في الدنيا والاخرة. قالت: فإني سأكتمه عليك قال: فإني لا أريد النساء. فأقامت معه سنة ثم إن أباه أنكر ذلك فسأله فقال: يا أبه ما طال ذلك بعد فدعى امرأته فسألها فقالت مثل ذلك ففرق بينهما وزوجه امرأة في بيت أشرافهم فأدخلت عليه فاستكتمها أمره فلما مضت سنة سأله أبوه مثل ما سأل فقال: ما طال ذلك فسأل المرأة فقالت: كيف تحمل امرأة من غير زوج ما مسني فغضب أبوه فهرب منه. فبعثه الله نبيًا مع ناشية و ناشية ملك. وذلك حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل وعملوا بالمعاصي وقتلوا الأنبياء وأوحي إليه: إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري فقام وجعل الرماد على رأسه وخرَّ ساجدًا وقال: يا رب وددت أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بنىِ إسرائيل من أجلي فقيل له: إرفع رأسك فرفع رأسه وبكى ثم قال: يا رب من تسلط عليهم قال: عبدة النيران لا يخافون عذابي ولا يرجون ثوابي قم يا أرميا فاستمع حتى أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل: من قبل أن أصورك قد نبيتك من قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ومن أقبل أن تبلغ الأشد اخترتك ولأمر عظيم اجتبيتك فقم مع الملك ناشية فسدده وأرشده فكان معه يرشده ويأتيه الوحي حتى عظمت الأحداث ونسوا أنجاة الله إياهم من عدوهم سنحاريث فأوحى الله إلى أرميا: قم فقص عليهم ما أمرتك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم. فقال أرميا: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخطىء إن لم تسددني مخذول إن لم تنصرني ذليل إن لم تعزني. فقال الله تعالى له: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن الخلق والأمر كله لي وأن القلوب والألسنة كلها بيدي أقلبها كيف شئت فتطيعني وأنا الله الذي ليس شيء مثلي قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ولم تتم المقدرة إلا لي ولم يعلم ما عندي غيري وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي وأمرتها فعقلت أمري وحدّدْت عليها حدودا فلا تعدو حدي وإني معك ولن يصل إليك شيء معي وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي مستوجبًا بذلك أجر من اتبعك منهم ولا ينقص من أجورهم شيء إنطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن اللّه تبارك وتعالى ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استقاكم يا معشر أبناء الأنبياء ونسلهمِ كيف وجد أباؤهم مغبة طاعتي وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي وهل وجدوا أحدًا عصاني فسعد بمعصيتي وهل علموا أحدًا طاعني فشقي بطاعتي إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم وابتغوا الكرامة من غير وجهها. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادتي خولًا يتعبدونهم دوني ويحكمون فيهم بغير كتابي حتى أنسوهم ذكري و غيروا سنني فأدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي فهم يطيعونهم في معصيتي. وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي وأمنوا مكري وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم عليَّ وغِرَّة بي. فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لي أن يكون لي شريك في ملكي. وهك ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي وهل ينبغي لي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني وآذن بطاعة لأحد لا تنبغي لأحد إلا لي. وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ويطيعونهم في معصيتي ويوفون بعهودهم الناقضة لعهدي. وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون يخوضون مع الخائضين فيتمنون طي مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق منهم ولا تفكر ولا يذكرون كيف كان نصر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني فتأنَّيْت بهؤلاء القوم لعلهم يستحييون مني ويرجعون فطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر وأعذرت لعلهم يتذكرون وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني. فحتى متى أبي يتمرسون أم إياي يخادعون أم علي يتجرؤون فإني أقسم بعزتي لأقيمن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ويضل فيها رأي ذو الرأي وحكمة الحكيم ثم لأسلِّطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة والبيان يتبعه عد وسواد مثل الليل المظلم له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومراكب مثل العجاج كأن حفيف راياته طيرانَ النسور وحجل فرسانه كصوت العقبان يعيدون العمران خرابًا والقرى وحشًا وببعثون في الأرض فسادًا ويتبرون ما علوا تتبيرًا قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقون ولا يرحمون يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود. فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ولأخلين مجالسهم من حديثها وعروسها ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كالوا يتزينون بعمارتها لغيري ويتعبدون فيها لكسب الدنيا بالدين ويتفقهون فيها لغير الدين ويتعلمون فيها لغير العمل. لأبدلن ملوكها بالعز الذل وبالأمن الخوف وبالغنى الفقر وبالنعمة الجوع وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء وبلباس الحرير مدارع الوبر والعباء بالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتلى ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب وبعد ضوء السراج دخان الحريق وبعد الأنس الوحشة والقفار. ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار. ثم لأدوسنهم بألوان العذاب حتى لوكان الكائن منهم في خالق لوصل ذلك إليه إني إنما أكرم من أكرمني وإنما أهين من هان عليه أمري ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن طبقًا من حديد ولأمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت. فإن أمطرت خلال ذلك شيئًا سلطت عليه الآفة فإن خلص منهم شيء نزعت منه البركة وإن دعوني لم أجبهم وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم وإن تضرعوا إِليَّ صرفت وجهي عنهم وإن قالوا: اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارًا وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارًا فأنت أحق المنعمين أن لا تغير إن غيرنا ولا تبدل إن فإن قالوا ذلك قلت لهم: إني ابتدىء عبادي بنعمتي ورحمتي فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت وإن شكروا ضاعفت وإن بدلوا غيرت وإذا غيروا غضبت وإذا غضبت عذبت وليس يقوم لغضبي شيء. وقال كعب: قال أرمياء: برحمتك أصبحت أتكلم بين يديك وهل ينبغي لي ذلك وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم وليس أحد أحق من يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولًا والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكير ولا تغير مني فإن تعذبني فبذنبي وإن ترحمني فذلك ظني بك. ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت إنك المملك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت إنك لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك يا رب وإنك لتعذب هذه الأمة وهم ولد ابراهيم خليلك وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك يا رب أي القرى يأمن عقوبتك بعد أوري شلم وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولدخليلك ابراهيم وأمة نجيك موسى وقوم خليفتك داود تسلط عليهم عبدة النيران. فقال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على قال أرميا: يا رب اتخذت ابراهيم خليلًا وحفظتنا به وموسى نجيًا فنسألك أن تحفظنا ولا تسلط علينا عدونا فأوحى الله تعالى إليه: يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل وكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طامر لا يغور ماؤها ولا يبور ثمرها إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عزة واتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشًا ينطح بعضها بعضًا. فيا ويلهم ثم يا ويلهم إنما أكرم من أكرمتي وأهين من هان عليه أمري إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يظهرون معصيتي في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الجبال وظلال الأشجار حتى عجت السماء إليّ منها والأرض والجبال ونفرت منها الوحوش في كل ذلك ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب. قال: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد عصوه وكذبوه وقالوا: أعظمت على الله الفرية وتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعباده وتوحيده فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولاكتاب لقد أعظمت الفرية واعتراك الجنون. فأخذوه وقيدوه وسجنوه فعند ذلك بعث الله عز وجل عليهم بخت نصر. لما ولي لهراسب وتمكن ملكه بعث بخت نصر وهو رجل من الأعاجم فأتى دمشق وصالح أهلها ووجه قائدًا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم فقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا فقتلوه فكتب قائد بخت نصر إليه بما كان فكتب إليه أن يقيم بموضعه حتى يوافيه وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه. فسار بخت نصر حتى أتى بيت المقدس فهدمه وهدم المساجد ورمى فيها الكنائس وخرب الحصون وحرق التوراة وأخذ الأموال وقتل المقاتله وسبى الذرية وكانوا سبعين ألف غلام ووجد في سجن بني إسرائيل أرميا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بخت نصر: ما خطبك فأخبره أن الله تعالى بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم فكذبوه وحبسوه فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! فخلى سبيله وأحسن إليه. فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب مما صنعنا فادع الله أن يقبل توبتنا. فذعا ربه فأوحى إليه: إنهم غير فاعلين فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلد فأخبرهم فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت. فخرجوا يستجيرون بملك مصر فغزا بخت نصر أرض مصر فقتل ملكها وقتلهم ثم بلغ أقصى ناحية المغرب ذكر خبر غزو بخت نصر للعرب إن بخت نصر إنما حارب بني إسرائيل لقتلهم يحيى بن زكريا وليس بصحيح على ما سيأتي بيانه ثم حارب العرب في زمن معد بن عدنان فجمع من في بلاده من تجار العرب فبنى لهم حيرًا على النجف وضمهم فيه ووكل بهم من يحفظهم ثم تأهب للخروج إلى قتال العرب فأقبلت طوائف منهم مسالمين فأنزلهم على شاطىء الفرات فابتنوا موضع معسكرهم فسموه الأنبار وخلى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلًا في حياة بخت نصر. فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابًا. وقال قوم: خرج بخت نصر فالتقى هو وعدنان ورجع بخت نصر بالسبايا فألقاهم بالأنبار فقيل: أنبار العرب ثم مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابًا. فلما مات بخت نصر خرج معد بن عدنان ومعه أنبياء بني إسرائيل حتى أتى مكة فأقام أعلامها وحج وحج معه الأنبياء وأفنى أكثر جرهم وتزوج معانة بنت جوشم فولدت له نزار بن معد وولد لنزار مضر وربيعة وإياد وأنمار فقسم ماله بينهم. وأنبأنا الحسين بن محمد الدياس قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عقبة المكرم قال: حدثني محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ". أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن كامل بن شجرة قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن موسى بن حمار البربري قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أبي السري قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن معاوية بن عميرة أنه سمع عبد الله بن عباس وقد سأله عن ولد نزار بن معد قال: " هم أربعة: مضر وربيعة وإياد وأنمار بنو نزار بن معد بن عدنان فكثر أولاد معد ونموا وتلاحقوا ومنازلهم مكة وما والاها من تهامة فانتشروا وتنافسوا في المنازل والمحال وأرض العرب يومئذ خاوية ليس فيها كبير أحد إلا خراب بخت نصر وإياها وأجلى أهلها إلا من كان اعتصم برؤس الجبال ولجأ إلى أوديتها وشعابها ولحق بالمواضع التي لا يقدر عليه فيها متنكبًا لمسالك جنده فاقتسموا الغور غور تهامة على سبعة أقسام لمنازلهم ومسارح أنعامهم ومواشيهم وإنما سميت بلاد العرب الجزيرة لإحاطة البحر والأنهار بها فصاروا في مثل الجزيرة من جزائر البحر. وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأيلة فامتد البحر من ذلك المرضع مطيفًا ببلاد العرب فأتى منها على صفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وعمان والشحر ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن واستطال ذلك العنق فطعن في تهايم اليمن ومضى إلى ساحل جدة. وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلًا معارضًا للبحر معه حتى وقع في بحرمصر والشام. ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها وأتى على بيروت ونفذ إلى سواحل حمص و قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات فخطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق. وأقبل جبل الصراة من قعر اليمن حتى بلغ أطراف الشام فسمته العرب حجازًا لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وما دونه في شرقيه النجد. فصار لعمرو بن معد بن عدنان وهو قضاعة جدة وما دونها إلى منتهى ذات عرق إلى حيز الحرم فانتشروا فيها وكان لجنادة بن معد الغمر. وصار لمضر بن نزار حيز الحرم إلى السروات. وصار لربيعة بن نزارمهبط الجبل من غمر ذي كندة وبطن ذات عرق إلى عمرة وما صاقبها من بلاد نجد الغور من تهامة. وصار لأياد وأنمار ما بين حذاء من مصر إلى أرض نجران وما قاربها. وصار لباقي ولد معد أرض مكة وأوديتها وشعابها وجبالها وبطاحها وما صاقبها من البلاد فأقاموا بها مع من كان في الحرم من جرهم. وسنذكر أحوال بني نزار في نسب نبينا صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى وغيرهما. ثم أوحى اللهّ تعالى إلى أرميا: أني عامر بيت المقدس فأخرج إليها فأنزلها فخرج حتى قدمها وهي خراب فقال في نفسه: متى تعمر هذه. فأماته الله مائة عام ثم بعثة وقيل هو عزير عليه السلام. ذكر عمارة بيت المقدس اختلفوا على قولين: أحدهما: إنه أرميا. روى عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله تعالى إليه: أن الحق بأرض إيليا فإن هذه ليست لك بأرض فقام فركب حماره حتى إذا كان ببعض الطريق وقد أخذ معه سلة من عنب وسقاء جديدًا أملاه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى نظر إلى خراب لا يوصف فقال: " أنى يًحيي هذهِ اللّهُ بَعْدَ مَوتِهَا " ثم تبوأ منها منزله وربط حماره فألقى الله عليه السبات ونزع روحه مائة عام. فلما مرت منها سبعون أرسل الله ملكًا إلى ملك من ملوك فارس فقال: إن الله يأمرك أن تنْفِرَ بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت. فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل. فندب ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثة آلاف عامل وما يصلحه من أداة العمل فسارت القهارمة فلما وقعوا في العمل رد الله روح الحياة في عيني إرمياء فنظر إليها تعمر. قال مجاهد: إسمه كورش ولم يتم بناؤها إلا بعد الملك الرابع بعد كورش على سماعة بن أصيد وهو من رهط داود. القول الثاني إن أرمياء لبث في موته إلى أن هلك بخت نصر وكان قد عاش ثلاثمائة سنة وهلك ببعوضة دخلت في رأسه وهلك الملك الذي فوقه وهو لهراسب وكان ملكه مائة وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بشاسب فبلغه عن بلاد الشام خراب وإن السباع قد كثرت في بلاد فلسطين فلم يبق فيها من الإنس أحد فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلًا من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها فرجعوا فعمروها ورد اللّه الروح إلى أرمياء عليه السلام. القول الثالث وعلى هذا أكثر العلماء وهو عُزَير بن شرويق بن عزيا بن أيوب بن زرحيا بن عزي من ولد هارون. أخبرنا أبو الحصين قال: أخبرنا أبو طالب بن غيلان قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا أبو يعقوب الحربي قال: حدثنا أبو حذيفة النهدي قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب: " أوْ كَالَذِي مًر عَلَى قَرْيَة " قال: هو عزير. قاد علماء السير: لما قال عزيز: " أني يحيى هذه اللّه بعد موتها " أماته اللّه مائة عام وأول ما خلق منه عيناه فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض ثم كسيت لحمًا ونفخ فيه قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة وابنه ابن عشرين سنة. ثم بعث وهو ابن أربعين ومائة وابنه ابن مائة وعشرين فأقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس فقال: أنا عزير فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزير مات فقال: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم وكانت قد ذهبت فليس أحد يقرأها فأملاها عليهم. قال وهب بن منبه: كان عزير من السبايا التي سباها بخت نصر من بيت المقدس فرجع إلى الشام يبكي على فقد التوراهَ فجاء ملك فقال: صم وتطهر وطهر ثيابك وتعالى إلى هذا المكان. ففعل فأتاه بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فرجع على بني إسرائيل فتلاها عليهم وأقام فيهم مقيمًا بحق اللّه ثم توفاه. قال أحمد بن جعفر بن المنادي: لما تلى عليهم بعضها افتتنوا فقالو ما قالوا فلما مات بدلت وكان المتولي لتبديلها ميخائيل تلميذ عزير وهو رأس بابل كلها. وقال غيره: لما خرب بيت المقدس أحرق التوراة وساق بني إسرائيل إلى بابل فذهبت التوراة فجاء عزير فجددها لهم ودفعها إلى تلميذ له ومات فذلك التلميذ زاد فيها ونقص. ويدل على تبديلها أن فيها أسفار موسى وما جرى له وكيف كان موته ووصيته إلى يوشع وحزن بني إسرائيل عليِه وغير ذلك مما لا يشكل على عافل أنه ليس من كلام اللّه ولا من كلام وقال داود بن أبي هند: سأل عزير ربه عن القدر فأوحى اللّه إليه: سألتني عن علمي فعقوبتك أن لا أَسميك في الأنبياء فلم يذكرمن الأنبياء. قالت علماء السير: لما بني بيت المقدس أقام بنو إسرائيل أمرهم وكثروا إلى أن غلبتهم الروم فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة. ويقال: زرتيشست بن سقيمان وقيل: ابن حركان بعد ثلاثين سنة من ملك بشتاسب وهو الذي يزعم المجوس أنه نبيهم. وقد زعم بعض أهل الكتاب أنه كان خادمًا لبعض تلامذة أرمياء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان خاصًا به فخانه وكذب عليه فدعى الله عليه فبرص فلحق بأذربيجان وشرع بها دين المجوسية ثم خرج منها متوجهًا نحو بشتاس وهو ببلخ. فلما قدم عليه ادعى النبوة وأراده على قبول دينه فامتنع من ذلك ثم صدقه وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيًِا فكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفرًا في الجلود ونقشًا بالذهب وصيّر بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر ووكل به الهرابذة ومنع تعليمه العامة وألزم رعيته بقبول قول زرادشست وقتل منهم مقتلة عظيمة حتى قبلوا ذلك ودانوا به وبنى بالهند بيوت النيران وتنسك وتعبد. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: جاء زرادشت من بلخ وهو صاحب المجوس وادعى أن الوحي نزل عليه على جبل سيلان فدعى أهل تلك النواحي الباردة الذين لا يعرفون إلا البرد وجعل الوعيد يضاعف البرد وأقر بأنه لم يبعث إلا إلى أهل الجبال فقط وشرع لأصحابه التوضؤ بالأبوال وغشيان الأمهات وتعظيِم النيران مع أمور سمجة. قال: ومن قول زرادثست: كان الله وحده ولا شيء معه فلما طالت وحدته فكر فتولد من فكره إبليس فلما مثل بين يديه أراد قتله فامتنع منه فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدةّ وسالمه إلى غاية. وما زال مذهب زرادشت معمولًا به إلى زمان كسرى أنوشروان فإنه هو الذي منع من أتباع ملة زرادشت وقد ذكرنا أنه كان للمجوس نبي وكتاب إلا أنه لا يتحقق متى كان ذلك. وقد أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي قال: أخبرنا علي بن منصور بن علان (ح). وأخبرتنا فاطمة بنت الحسين بن الحسن الرازي قالت: أخبرنا أبو بكرأحمد بن علي الخطيب قالا: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري قال: أخبرنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل: على ما تَؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب فقام إليه المستورد فأخذ يلبيه وقال: يا عدو الله تطعن على أبي بكر وعمر وعلى أمير المؤمنين يعني عليًا وقد أخذوا منهم الجزية فذهب به إلى القصة فخرج إليهم علي رضي الله عنه فقال: اتئدا! أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه من بناته فأنا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه. فتابعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع بين أظهرهم وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر منهم الجزية. أنبأنا أبو غالب الماوردي قال: أخبرنا أبو علي التستري قال: أخبرنا أبو عمرو الهاشمي قال: أخبرنا أبو علي اللؤلؤي قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: حدثنا محمد بن بلال عن عمران القطان عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية. وصار الملك باليمن بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر وكان يقال له: ياسر أنعم سموه بذلك لأنعامه عليهم فسار نحو المغرب غازيًا فبلغ إلى وادي الرمل ولم يبلغه أحد قبله فلم يقدر على الجواز فبينا هو مقيم انكشف الرمل فأمر رجلًا من أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يرجعوا. فأمر حينئذ بصنم من نحاس فنصب على صخرة على شفير الوادي وكتب في صدره: هذا الصنم لياسر الحميري وليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب.
|